وضع النص في سياقه الأدبي والفني:
من المؤكد أن المثاقفة مع الغرب لم تؤد إلى تعرف
العرب على الأشكال الفنية الجديدة كالمسرح والقصة فحسب، بل كانت سببا في تعرفهم
على المناهج النقدية الغربية والتأثر بها. ورغم أن مرحلة النقد في العالم العربي
جاءت متأخرة عن مرحلة الإبداع، إلا أنها تمكنت من تخليص
النقد العربي من الأحكام المعيارية والانطباعية. وقد استلزمت كثرة المناهج وتنوعها
ضرورة دراستها والتعريف بها في إطار حركة سميت بنقد النقد، اتجه قسم منها نحو
التعريف بمبادئ الاتجاهات النقدية والكشف عن خلفيتها النظرية، بينما اتجه قسم آخر
نحو تقويم هذه المناهج والمقارنة بينها، في محاولة لإبراز نقائصها ومميزاتها،
والكشف عن مظاهر سوء توظيفها من قبل النقاد. واعتبارا للتطور الملحوظ الذي عرفه
المنهج الاجتماعي لدى الغربيين، فقد دأب عدد من النقاد العرب على رصد تحولاته
واستخلاص سماته وقواعده ومدارسه المتنوعة، كما فعل شكري محمد عياد، حسين حسن، أبو
بكر أحمد باقادر، ونبيل راغب، أحد أبرز هؤلاء في المجال النقدي، وهو صاحب النص
المعالج.
فما هي أطروحة النص ؟
وما هو
إطارها المرجعي ؟
وما
رهان الناقد من طرحها ؟
صياغة الفرضية:
اعتبارا لبعض المؤشرات الدالة كالعنوان، الذي يحيل على ذلك الإطار النظري
الواصف، الذي يعمد في قراءة النصوص الأدبية إلى استحضار المجتمع الذي أنتجها،
والشروط الموضوعية التي أفرزتها، يمكن أن نفترض أن النص مقالة نقدية ستعرف بهذا
المنهج وترصد أهم محطاته وتطوره. ويؤكد هذا الافتراض دلالة بداية النص التي تؤرخ
لظهور المنهج السوسيولوجي، ونهايته التي تؤكد أهمية البنية المحيطة في مقاربة
الأثر الأدبي. ومن خلال الدلالتين يمكن أن نفترض كذلك انتماء النص إلى الاتجاه
النقدي الثاني المشار إليه سابقا.
المضمون:
يعرض النص لمراحل تطور المنهج الاجتماعي انطلاقا من مرحلة التأصيل مع دي
ستايل، دي بوناد، وإيبوليت تين، الذي نادى بضرورة دراسة الأدب من خلال التعرف على
الأسباب التي كانت وراء حدوثه، إذ لا يمكن في اعتقاده تذوق الفن واستيعابه خارج إطاره
الاجتماعي، إلى مرحلة التبلور مع جورج لوكاتش، ولوسيان غولدمان، بمنهجه البنيوي
التكويني، الذي ينطلق من خمس فرضيات تحلل المضمون الاجتماعي في ضوء الشكل الفني.
أولى هذه الفرضيات تؤكد أن العلاقة بين المجتمع والإبداع تتصل بالأبنية العقلية
وتتبلور من خلالها. هذه الأبنية، ترى الفرضية الثانية أنها ليست
ظواهر فردية وإنما ظواهر اجتماعية. في حين تعرض الفرضية الثالثة العلاقة بين وعي
المجموعة الاجتماعية والعمل الأدبي، وتنفي أي تعارض بين الخلق الأدبي والواقع
الاجتماعي التاريخي. وهي فرضية ترتبط بالفرضية الرابعة التي ترى أن موضوع علم
الاجتماع الأدبي هو الأبنية التي تضمن الوحدة العضوية والبنيوية للعمل الإبداعي.
وينتهي غولدمان في فرضيته الخامسة إلى رفض المنظور السيكولوجي الذي يحصر أبنية
المقولات في الوعي واللاوعي. وقد خلص الناقد في النهاية إلى أن مشكلة فهم النص،
تتصل بتماسكه الداخلي، وأنه يتعين على الناقد أن يبحث بداخل النص عن بنية دالة
شاملة.
إشكالية النص:
يبدو إذن أن النص يعرض إشكالية قراءة النص الأدبي قراءة تفسيرية تربط العمل
الإبداعي بشروط إنتاجه. هذه الشروط تتلخص في ضرورة الربط بين الخلق الإبداعي
والشروط الاجتماعية والتاريخية التي أفرزته. ومن هذه الشروط يأتي رفض أصحاب المنهج
الاجتماعي، والمنهج البنيوي التكويني خصوصا، تفسير الأثر الأدبي انطلاقا من
الاعتبارات السيكولوجية المرتبطة بذهن المبدع، خاصة وأنها ترى في الإنتاج الأدبي
عملا غير واع وأنه نتاج لعملية كبت مسبق.
المفاهيم والمصطلحات:
وللتعبير عن هذه الإشكالية تنوعت مفاهيم النص ومصطلحاته بين حقلي الأدب
وعلم الاجتماع، فرضتهما طبيعة القضية المدروسة. فلأن الإبداع الأدبي هو منطلق
المنهج الاجتماعي ومادته فقد كان من الضروري أن يوظف الناقد مفاهيم ذات مرجعية
أدبية، لكن بكثافة أقل، لأن الموضوع نقدي وليس أدبيا ( الأدب – استيعاب الفن –
تذوق – الخلق الأدبي – العمل الأدبي...). وإلى جانب حقل الأدب تواترت مفاهيم
اجتماعية انسجاما وموضوع المقالة ومع طبيعة العلاقة بين الأدب والمجتمع ( المجتمع –
السياسة – إطاره الاجتماعي – النظرية السوسيولوجية – المضمون الاجتماعي...). وبشكل
أكثر كثافة.
العناصر الجزئية:
وللإحاطة بجميع جوانب الإشكالية، جزأ الناقد هذه الأخيرة إلى عدد من
القضايا التحتية، كقضية الوحدة العضوية والبنيوية للعمل الأدبي، المرتبطة
بطبيعة أبنية المقولات التي يدرسها علم الاجتماع، والتي تعتبر إحدى الخصائص
الجمالية المميزة للعمل الإبداعي، والتي تحدد الطبيعة الأدبية للعمل الأدبي. إلى
جانب قضية كون العمل الأدبي الخلاق تعبير عن رؤية للعالم، أثارها الناقد من
خلال الإشارة إلى أن الأثر الأدبي يختزن مضمونا اجتماعيا، يتم تقديمه من خلال رؤية
ذاتية للمحيط وللمجتمع.
الأطر المرجعية:
وقد تنوعت الأطر المرجعية التي اعتمدها الكاتب، والتي راهن عليها لتستوعب
القضية المدروسة، بين علم الاجتماع الوضعي ( علاقة الأدب بالمجتمع،
وبالسياسة،...) وعلم الاجتماع الماركسي ( الأبنية العقلية، المقولات والمفاهيم
التي تشكل الوعي الحياتي...) وعلم النفس الفرويدي (الوعي، اللاوعي، الكبت
المسبق...). على أن أساليب الناقد في التعامل مع هذه المرجعيات تباينت بين التبني
الكلي والجزئي، والرفض المطلق...
البنية الحجاجية:
انسجاما مع ذلك، استدعت معالجة الكاتب للإشكالية المطروحة اتباع خطة منهجية
وتفسيرية وحجاجية تباينت أساليبها بين القياس الاستنباطي، بانتقاله من مسألة تأصيل
المنهج الاجتماعي إلى مشكلة فهم النص الأدبي، والتفسير، تفسير الفرضيات التي قال
بها غولدمان، إلى جانب المقارنة لإظهار الفرق بين المنهجين النفسي والسوسيولوجي.
كما وظف الاستشهاد بإدراجه لبعض أعلام النقد الغربي وطروحاتهم المختلفة، متوسلا
بمنهج تحليلي علمي يقوم على طرح الفرضية وتحليلها، اعتمادا على حجج وبراهين
مختلفة.
إلى
جانب الوسائل السابقة، يتعزز الجانب التفسيري والحجاجي في النص بحرص الناقد على
تحقيق الانسجام بين جمل النص وفقراته، باستعمال عدد من أدوات الاتساق، كالإحالة
بالضمائر (لا يستكشفها الناقد في تفاصيلها، بل بالقدر الذي يعنيه)
وبأسماء الإشارة (إدماج هذه البنية....)، والأسماء الموصولة (المقولات التي
يدرسها...). وعلى العموم فقد خضعت جمل النص وفقراته لعملية بناء منظمة ومترابطة
ترابطا دلاليا، جعلت من النص بنية دلالية واحدة، تحققت بتوظيف أدوات العطف،
والاتساق البياني الذي استغنى الناقد بموجبه عن أدوات الربط، واستعاض عنها بتوظيف
البدل (...علم لا ينهض على افتراض عملية كبت مسبق). وتتنوع أدوات الربط ووسائله
بين الفقرات. ويمكن أن نرصد عددا من آليات اشتغال الاتساق بين الفقرات كالتكرار
الذي ارتبط بالأساس بالألفاظ مفاتيح النص، كتكرار المرادفات (الخلق الأدبي –
المقولات الدالة – العمل الأدبي – النص)، وتكرار اللفظ بعينه ( النظرية
السوسيولوجية – الأبنية العقلية – المقولات الدالة).
الخلاصة التركيبية:
تكشف
مستويات التحليل الآنفة عن مقصدية واضحة المعالم، تتحدد في التعريف بطبيعة المنهج
الاجتماعي وتحديد مرتكزاته، من خلال تتبع مراحل تطوره منذ مرحلة التأصيل إلى مرحلة
التبلور، وتحديد السمات والمميزات التي ينفرد بها عن النهج السيكولوجي. وهي طريقة
تحليلية تؤكد صحة فرضية انتماء المقالة إلى الاتجاه النقدي الثاني المشار إليه في
المقدمة. وللتعبير عن هذه المقصدية توسل الكاتب ببنية حجاجية وتفسيرية تخدم طبيعة
النص الحجاجية الإقناعية، كالاستنباط والتفسير والاستشهاد....كما حرص على حسن
توظيف آليات الاتساق الكلي والجزئي بين مكونات النص، وكلها مقومات تخصص كتابة المقالة النقدية، مما يؤكد صحة الفرضية
التي سبق وأشرنا إليها، من كون النص مقالة نقدية تتمحور حول المنهج الاجتماعي من
حيث تطوره وخصائصه.
د . عمر عودى: مناهج قراءة النصوص الأدبية
للسنة الثانية من سلك البكالوريا مسلك الآداب والعلوم الإنسانية. 2014. الصفحة 145 وما بعدها (بتصرف).