سقوط الإمبراطورية العثمانية وتوغل
الاستعمار بالمشرق العربي:
تمهيد إشكالي:
مع بداية القرن العشرين دخلت
الإمبراطورية العثمانية مرحلة الانهيار والسقوط. وفي نفس الوقت تزايدت الأطماع الأوربية
للسيطرة على ممتلكاتها فيما يعرف بممتلكات الرجل المريض، خاصة بالمشرق العربي، قابلتها
رغبة الشعوب العربية في التحرر من الحكم العثماني. فماهي العوامل المفسرة لسقوط الإمبراطورية
العثمانية؟ وما هي وسائل التوغل الاستعماري؟ وماهي
نتائج الانتداب البريطاني على المشرق العربي؟
أسباب سقوط الإمبراطورية العثمانية:
العوامل التي مهدت لإسقاط الإمبراطورية العثمانية قبل الحرب العالمية الأولى:
مهدت
مجموعة من العوامل لسقوط الإمبراطورية العثمانية قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى.
وقد تمثلت أساسا في تدهور الأوضاع العامة، نتيجة للعوامل التالية:
أ- انقلاب جمعية الاتحاد والترقي على السلطان
عبد الحميد الثاني، وعجز السلاطين العثمانيين المتأخرين عن القيام بمسؤولياتهم، وانتشار
الفساد الإداري وتزايد نفوذ جيش الانكشارية في
تسيير شؤون الدولة.
ب- عدم قدرة الدولة العثمانية على فرض الأمن
والاستقرار في مناطق نفوذها وظهور حركات الانفصال في عدة ولايات.
ج- الأزمة المالية التي أدت إلى العجز عن دفع
رواتب الموظفين، وعدم القدرة على الالتزام بدفع ديونها. مما دفع بالدولة إلى نهج سياسة
جبائية قاسية تجاه شعوب المناطق الخاضعة لها، وصلت حد السلب والنهب واستعمال القوة
بتزكية من فقهاء الدولة.
د- تعدد الهزائم
العسكرية، والتي أدت إلى عجز الدولة العثمانية عن الدفاع عن مناطق نفوذها في أوربا أمام اليونان،
وتزايد الأطماع الاستعمارية الفرنسية بالجزائر وتونس، والبريطانية بمصر، والإيطالية
بليبيا .
هـ - ظهور حركات التمرد السياسي والاستقلال عن
السلطة العثمانية بعد دخولها الحرب العالمية الأولى.
و- ظهور تيارات قومية عربية مناهضة للحكم التركي
بسبب سياسة التتريك، تدعوا إلى الانفصال عن الدولة العثمانية. وقد عكس مؤتمر باريس
1913 هذا التوجه القومي حيث طالب بإقامة كيان عربي متميز وقادر على مواجهة الأطماع
الخارجية.
وبذلك ساهمت الأوضاع الداخلية المتدهورة والأطماع
الخارجية المتربصة بالإمبراطورية العثمانية إلى التمهيد لإسقاطها. فكيف ستساهم الأطماع
الخارجية في عملية الإسقاط وماهي الوسائل التي اعتمدتها لتحقيق ذلك؟
الوسائل التي وظفتها الدول الإمبريالية لتحقيق أهدافها بالإمبراطورية العثمانية:
بدخول الإمبراطورية الحرب العالمية الأولى إلى
جانب ألمانيا، تزايد بها التغلغل الإمبريالى أكثر، وبالمشرق العربي خاصة، بهدف القضاء
عليها وحصر نفوذها في آسيا الصغرى، أو بلاد الأناضول ( تركيا
حاليا) واقتسام ممتلكاتها في المشرق العربي وأوربا
في إطار ما كان يعرف بممتلكات الرجل المريض. ولتحقيق هذا الهدف سخرت الدول الاستعمارية
خاصة فرنسا وبريطانيا مجموعة من الوسائل منها:
أ- تحريض بريطانيا العرب على الثورة على الإمبراطورية العثمانية بالتنسيق
بين شريف مكة "حسين بن علي" الذي كان له طموح سياسي بتولي
خلافة المسلمين، ومندوبها السامي في مصر والسودان "مكمهون"
عبر مراسلات سرية تمت ما بين 1915- 1916، مقابل
اعتراف بريطانيا باستقلال البلاد العربية، مما أدى إلى اندلاع الثورة العربية سنة
1916
.
ب- في الوقت الذي حرضت فيه بريطانيا العرب
على الثورة مقابل وعود بالاعتراف باستقلالهم، كانت توقع مع فرنسا وبريطانيا وروسيا
اتفاقية سرية لاقتسام مناطق النفوذ عرفت باتفاقية سايكس- بيكو سنة 1916 (سايكس وزير
خارجية فرنسا، وبيكو وزير
خارجية فرنسا) التي فضحها البلاشفة بعد وصولهم إلى السلطة بروسيا بقيادة لينن سنة 1917.وفي نفس
الإطار منحت لليهود وعدا بإقامة دولة لهم بفلسطين بعد القضاء على النفوذ العثماني بها.
هذا الوعد هو الذي يعرف بوعد "بلفور" سنة 1917.
ج- شكلت الثورة العربية إحدى الخطط العسكرية التي نهجتها بريطانيا من أجل
إلحاق الهزيمة بالعثمانيين في الحرب العالمية الأولى، ودعم حلفائها روسيا ورومانيا،
والتحكم في مستعمراتها بآسيا. وما إن انتهت الحرب حتى كانت معظم البلاد العربية تحت
الانتدابين البريطاني والفرنسي.
د- فرض معاهدة "سيفر" 1920 على الإمبراطورية
العثمانية. وبموجبها تم تفكيك واقتطاع أجزاء من أراضيها بأروبا لصالح اليونان وإيطاليا،
بينما تم إخضاع منطقة المشرق العربي للانتدابين البريطاني والفرنسي.
دور الاتجاهات القومية في إسقاط الإمبراطورية
العثمانية:
عرفت هذه المرحلة تطور اتجاهات قومية، وسط العرب
من جهة ووسط الأتراك من جهة أخرى، ساهمت في إسقاط الإمبراطورية العثمانية. فعلى
المستوى العربي تطور تيار قومي عربي، طالب في المؤتمر العربي بباريس 1913 بتمتيع العرب
بكافة حقوقهم السياسية، والقيام بإصلاحات لفائدتهم في أفق وضع إطار لكيان عربي متميز.
وهو ما شكل بداية للثورة على الإمبراطورية نتيجة سياسة التتريك التي نهجتها تجاه الشعوب
غير التركية. أما على المستوى التركي،
فقد فظهرت حركة قومية تركية دعت إلى إقامة كيان قومي يضم العناصر التركية فقط، بزعامة
"حركة تركيا الفتاة " في عهد حكومة
الاتحاد.
دور الضغوط الإمبريالية في إنهاء الخلافة العثمانية وتعويضها بتركيا الحديثة:
مكنت مختلف الوسائل التي نهجتها كل من بريطانيا
وفرنسا في مواجهة الإمبراطورية العثمانية من إسقاطها. فسقط معها نظام الخلافة الإسلامية،
وحلت محلها دولة تركيا الحديثة، بعد أن عجز السلطان العثماني "عبد المجيد الثاني"
عن مواجهة الثورة الداخلية بقيادة القوميين، بزعامة مصطفى كمال أتاتورك، والذين فازوا
بانتخابات 1919 ، وسيطروا على الجمعية الوطنية "البرلمان" وأسسوا حكومة وطنية
سيطرت على الوضع السياسي والعسكري بالبلاد بعد أن مهدوا لذلك في مؤتمر أرضروم 1919
، والذي تقرر فيه تشكيل حكومة مؤقتة والحفاظ
على حدود الوطن التركي ورفض الحماية والوصاية عليه. كما تم عقد عدة اتفاقيات مع الدول
الأجنبية مكنتها من استعادة جزء من سيادتها على بعض المناطق التي انتزعت من الإمبراطورية
العثمانية بموجب معادة سفير1920، كالسيادة على مضيقي البوسفور والدردنيل في اتفاقية
مع الاتحاد السوفيتي وإيطاليا وفرنسا سنة 1921.
كما تم عقد معاهدة لوزان في 24 يونيو1923 التي
أعادت النظر في مقررات معاهدة سيفر. فتم الاعتراف بتركيا دولة جمهورية مستقلة ذات سيادة
على المناطق ذات الأغلبية التركية، مقابل التزامها بعدم مطالبتها بكل ولاياتها السابقة،
والتنازل عن العراق وفلسطين وغيرهما.
وفي 3 مارس من سنة 1924 اتخذت الحكومة التركية
قرارا بإلغاء الخلافة العثمانية وإعلان قيام جمهورية تركية علمانية تفصل بين الدين
والسياسة، كما تم نفي السلطان عبد المجيد إلى الخارج.
بذلك تم إقرار أسس الدولة التركية الحديثة القائمة
على نظام دستوري جمهوري علماني بدل نظام الخلافة الإسلامية على يد مصطفى كمال أتاتورك.
نتائج الانتدابين البريطاني والفرنسي على منطقة المشرق العربي:
اتفاقية سايكس يكو1916 وفرض الانتداب على المشرق العربي:
بموجب اتفاقية سايكس- بيكو 1916، حصلت فرنسا على
الجزء الأكبر من بلاد الشام وجزء كبير من جنوب الأناضول ومنطقة الموصل بالعراق. أما
بريطانيا فامتدت مناطق سيطرتها من القسم الجنوبي لبلاد الشام إلى الشرق لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق
الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية. كما تقرر
أن تقع المنطقة التي اقتطعت فيما بعد من جنوب سوريا وعرفت بفلسطين تحت إدارة دولية
تم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا. لكن الاتفاق نص على منح بريطانيا
مينائي حيفا وعكا على أن يكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا. وفي المقابل تنازلت
فرنسا لبريطانيا عن استخدام ميناء الإسكندرونة الذي كان سيقع في حوزتها.
وبذلك تنكرت بريطانيا لوعودها للعرب، واقتسمت المشرق
العربي مع فرنسا بموجب معاهدة سان ريمو بإيطاليا 1920، وفرضت الانتداب على المنطقة
بفصل لبنان عن سوريا ووضعهما تحت الانتداب الفرنسي، كما تم وضع العراق وفلسطين والأردن
تحت الانتداب البريطاني، مع الاعتراف بالشريف حسين ملكا على الحجاز.
نتائج
الانتدابين البريطاني والفرنسي على المشرق العربي:
من نتائج الانتدابين ميلاد حركة المقاومة المسلحة
ضد الاحتلال، خاصة بسوريا التي انهزمت أمام الفرنسيين في معركة ميسلون 1920 بقيادة
المقاوم يوسف العظمة. أما في العراق فقد اندلعت الثورة بعد أن تأكد للعراقيين أن بريطانيا
دولة محتلة وليست محررة لهم من السيطرة التركية، خاصة عندما بدأت تنفذ سياسة التهنيد
بالبلاد وتنفذ مقررات مؤتمر سان ريمو. كما عانى السكان والمنطقة من سياسة الاستغلال
الاستعماري لثروات المنطقة المعدنية والطاقية والفلاحية، فتدهورت أوضاع الأهالي الاقتصادية
والاجتماعية. إلا أن أخطر النتائج تمثلت في تقسيم المشرق العربي وتجزئته حسب مصالح
الدول الاستعمارية، توطين اليهود بفلسطين تمهيدا لقيام دولتهم بها، والذي لازالت انعكاساته
على المنطقة وعلى استقرارها قائمة إلى يومنا هذا.
خاتمة:
تعكس السياسة الإمبريالية الأوربية مدى حجم المؤامرة
على المشرق العربي في شكل مؤتمرات ولقاءات سرية، في غفلة من الشعوب العربية، انتهت
بإسقاط الإمبراطورية العثمانية ونظام الخلاقة الإسلامية. لتدخل منطقة المشرق العربي
مرحلة جديدة اتسمت بعدم الاستقرار بعد تجزئتها إلى كيانات، وتوطين اليهود بفلسطين في
أفق بناء دولتهم، مما سيؤدي إلى ميلاد القضية الفلسطينية.
ذ.الحسين أوبنلحسن: أستاذ مادة الاجتماعيات.