نظام القطبية الثنائية والحرب الباردة:
تمهيد إشكالي:
مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبروز الاتحاد
السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية كقوتين عظميين متصارعتين على مناطق النفوذ في
العالم، دخلت العلاقات الدولية مرحلة نظام القطبية الثنائية. فماهي الظروف التي أفرزت
هذا النظام؟ وماهي المراحل التي مرت منها العلاقات الدولية في ظل نظام الثنائية القطبية؟
الأوضاع
الدولية غداة نهاية الحرب العالمية الثانية وبروز نظام القطبية الثنائية:
بداية
ظهور نظام القطبية الثنائية:
أدى تراجع نفوذ القوى الأوربية الاستعمارية التقليدية،
الممثلة في بريطانيا وفرنسا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى تصاعد
نفوذ قوتين جديدتين متعارضتين سياسيا واقتصاديا، رغم تحالفهما المؤقت خلال الحرب ع.2 ضد النازية والأنظمة الديكتاتورية.
هتان القوتان هما الاتحاد السوفييتي الداعم للمد الشيوعي
في العالم، والولايات المتحدة الأمريكية الرأسمالية التي تسعى إلى إيقاف هذا المد.
وقد تجلى التوجه نحو الثنائية القطبية في التقسيم الرباعي لألمانيا، بعد تحريرها من
النازية، إلى مناطق نفوذ الاتحاد السوفييتي الذي سيطر على القسم الشرقي، وإلى القسم
الغربي الذي اقتسمته الدول الرأسمالية فيما بينها (و.م.أ. وفرنسا و بريطانيا)، كما
تم تقسيم مدينة برلين بنفس الطريقة
تأسيس
هيأة الأمم بعد نهاية الحرب الباردة:
أمام تزايد الخلافات الدولية بين و.م. أ. والاتحاد
السوفيتي، وفي إطار وضع سياسة دولية جديدة لما بعد الحرب، وأمام عجز عصبة الأمم تجنيب
العالم ويلات الحرب العالمية الثانية، كان لابد من تأسيس هيأة دولية جديدة تم التمهيد
لها ووضع تصور لها من خلال مجموعة من اللقاءات،
بدأت بتصريح يناير1942 حين تم توقيع مشروع هيأة الأمم من طرف الدول التي كانت
تحارب النازية، انتهاء بمؤتمر سان فرانسيسكو25 أبريل 1945 والذي تم بموجبه تأسيس
الهيأة. وقد كان من أهدافها:
- ضمان
السلم والأمن الدوليين وحل النزاعات بالطرق السلمية بدل السلاح.
- نشر ثقافة التسامح والتعايش وحسن الجوار والاهتمام
بتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للشعوب.
وقد تمتعت الدول الخمس الكبرى (و.م.أ. - بريطانيا
- فرنسا - الاتحاد السوفييتي- الصين) داخل هذه الهيأة بحق النقض المعروف " بالفيتو".
ولكي تحقق أهدافها، تم إنشاء مجموعة من الأجهزة والمؤسسات أهمها الجمعية العامة
و مجلس الأمن الدولي ومحكمة العدل الدولية والمجلس الاقتصادي والاجتماعي.
تصاعد
التوتر الدولي ونشوب الحرب الباردة الأولى:
العوامل
التي ساهمت في انقسام العالم إلى كتلتين متصارعتين:
من العوامل
الأساسية التي ساهمت في انقسام العالم إلى كتلتين متصارعتين:
- اختفاء
التوازن متعدد الأطراف بعد الحرب العالمية الثانية والذي كان مركزه بأوروبا ممثلا في
القوى الاستعمارية الأوروبية (فرنسا- بريطانيا- إيطاليا- إسبانيا)، مما أدى
إلى خلق نظام توازن موزع بين قوتين عظميين تحتكران الأسلحة الذرية خارج أوربا هما الاتحاد
السوفييتي و الولايات المتحدة الأمريكية.
- فرض الاتحاد السوفييتي النظام الشيوعي بالمناطق
التي حررها من النازية بأوروبا الشرقية والوسطى، ونجاح الشيوعيين في الوصول إلى الحكم
بالصين بقيادة ماوتسي تونغ، مما أثار تخوف و.م.أ. وحلفاءها من المد الشيوعي
بأوروبا والعالم باعتباره خطرا يهدد الديمقراطيات الليبرالية ومصالحها كما يهدد السلم
العالمي.
- إعلان الرئيس الأمريكي ترومان 1947 عزم
بلاده التصدي للمد الشيوعي في أوربا والعالم، لحماية مصالحها من المد الشيوعي. كما
تحتم على الدول أن تحدد موقعها إما غربا أو شرقا.
وبذلك انقسم العالم إلى معسكرين: معسكر شيوعي وآخر
رأسمالي، كما انقسمت الأحزاب داخل البلد الواحد بالدول الرأسمالية إلى أحزاب شيوعية
وأخرى رأسمالية
.
مظاهر الحرب الباردة الأولى من 1947 إلى 1953:
اتخذت الحرب الباردة الأولى عدة مظاهر تمثلت في :
- تقسيم الخريطة السياسية للعالم إلى مناطق نفوذ شيوعية تابعة للاتحاد السوفييتي
ومناطق نفوذ رأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
- إعلان و.م.أ. مشروع مارشال 1947 لتقديم
الدعم المالي والتقني للدول الأوربية اللبرالية لمساعدتها على إعادة بناء اقتصادها
المدمر لتجنب سقوطها في يد المعسكر الشيوعي، ولمحاصرة المد الشيوعي.
- تأسيس الاتحاد السوفييتي لمكتب الإعلام
الشيوعي 1947 المعروف بالكومنفورم، لتعبئة الشعوب الأوربية الليبرالية من خلال الأحزاب
الشيوعية بها، ضد مشروع مارشال، باعتباره وسيلة لفرض الهيمنة الأمريكية على هذه الشعوب.
وقد ردت عليه و.م.أ بتأسيس وكالة المخابرات المركزية، كما تم تأسيس مجلس المساعدة الاقتصادية
المتبادلة المعروف بالكوميكون 1949 كرد فعل على تأسيس دول أوربا الغربية للمنظمة الأوربية
للتعاون الاقتصادي 1948.
- تأسيس تحالفات عسكرية، تمثلت بالنسبة للمعسكر
الرأسمالي في حلف الشمال الأطلسي "الناتو"، كحف رأسمالي موجه ضد المعسكر
الشيوعي. وحلف بغداد 1955 الذي أنشأته بريطانيا وأمريكا، وضم تركيا والعراق وإيران
وباكستان، للوقوف في وجه المد الشيوعي في الشرق الأوسط. إضافة إلى حلف منظمة جنوب شرق
أسيا 1954 (الذي ضم استراليا نيوزيلندا- باكستان – الفلبين- تايلاند – إضافة إلى فرنسا
وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية) والذي استهدف الحيلولة دون وصول المد الشيوعي.
أما
بالنسبة للمعسكر الشيوعي، فقد أسس حلف وارسو1955 لمواجة التهديدات التي أصبح يشكلها
حلف شمال الأطلسي
.
- تسابق المعسكرين نحو التسلح، الذي تمثل
في صنع الاتحاد السوفييتي للقنبلة النووية 1949 وتطوير الطرفين للصواريخ العابرة للقارات،
وصنع القنبلة الهيدروجينية.
- ظهور أزمات خطيرة كادت أن تدخل المعسكرين
في حروب مباشرة أخطرها أزمة حصار برلين الأولى 1948 بسبب عدم اتفاق العظميين حول مصير
ألمانيا. هذه الأزمة انتهت بتقسيم ألمانيا سنة 1949 إلى قسم شرقي (ألمانيا الديمقراطية) تابع للمعسكر الشيوعي،
وقسم غربي تابع للمعسكر الرأسمالي (ألمانيا الاتحادية )، مع تقسيم برلين إلى برلين
الشرقية وبرلين الغربية أيضا.
- أزمة
كوريا 1950 بسبب هجوم كوريا الشمالية على كوريا الجنوبية (حرب أهلية). فتدخلت الولايات
المتحدة الأمريكية لمساعدة حليفتها كوريا الجنوبية بينما تدخلت الصين والاتحاد السوفييتي
لدعم حليفتهما كوريا الشمالية. وقد انتهت الأزمة بالعودة إلى خط العرض 38 كحد فاصل
بين الكوريتين.
مرحلة
التعايش السلمي واندلاع الحرب الباردة الثانية: 1953- 1985:
الأزمات الدولية التي تخللت مرحلة التعايش السلمي:
دخلت العلاقات بين العظميين بعد وفاة ستالين ما
بين 1953 و1975 مرحلة من الانفراج والتعايش السلمي المبني على تجنب كل أسباب التوتر
المفضي للمواجهة العسكرية. وقد ساعد على ذلك وصول قيادات سياسية للحكم "خروتشوف"
بالاتحاد السوفييتي والرئيس "إيزنهاور" بالولايات المتحدة الأمريكية، ورغبة
الطرفين في التخفيف من حدة السباق نحو التسلح المدمر للطرفين والمكلف ماليا.
ومن مظاهر
التعايش السلمي:
تعدد اللقاءات بين العظميين لحل القضايا والخلافات
الدولية، كمؤتمر برلين 1954 الذي تمت خلاله مناقشة الوضعية الألمانية والنمساوية والاعتراف
بالحكومة الصينية الشيوعية. ومؤتمر جنيف 1955
الذي خصص لمناقشة الأمن الأوربي والعلاقات بين الشرق والغرب، والتفاوض في نزع
السلاح جزئيا كاتفاقية سالت SALT 1972.
ورغم
هذا الانفراج في العلاقات بين المعسكرين لم تخل هذه المرحلة من حدوث أزمات منها :
- أزمة برلين الثانية 1961 بسبب بناء الاتحاد
السوفييتي جدارا يفصل بين شطري المدينة الغربي والشرقي، في محاولة لوضع حد للهجرة المتزايدة
من برلين الشرقية نحو برلين الغربية.
- أزمة براغ 1968 إثر تدخل الجيش السوفييتي
ومعه حلف وارسو لسحق الحركات السياسية التشيكوسلوفاكية التي حاولت إقامة اشتراكية أكثر
إنسانية.
- حرب الفيتنام 1954- 1975 بين الفيتنام الشمالي
المدعم من طرف الاتحاد السوفييتي والفيتنام الجنوبي المدعم من طرف الولايات المتحدة
الأمريكية التي تورطت في هذه الحرب بشكل مباشر. وقد انتهت بتوحيد الفيتنام في دولة
واحدة سنة 1975.
- أزمة كوبا1962 التي اندلعت بسبب رصد الو.م.أ.
عملية نشر صواريخ سوفييتية بكوبا. وكادت أن تسبب حربا نووية بين العظميين، لكنها انتهت
بسحب الاتحاد السوفييتي لهذه الصواريخ.
- العالم الثالث والباردة الثانية 1975 -
1985:
بدأت هذه المرحلة بعد إعلان الاتحاد السوفييتي
دعمه للنضالات الثورية ذات التوجه الاشتراكي في كل من القارة الإفريقية والآسيوية وأمريكا
الجنوبية، ضد الهيمنة الإمبريالية الأمريكية والغربية سنة 1976. ومن مظاهر هذا
الدعم، تزويد الأطراف المتحاربة بالأسلحة (حروب
أهلية) والتدخل المباشر من طرف العظميين بمناطق
النزاع بالعالم الثالث. حيث تدخل الاتحاد السوفييتي وكوبا في أنغولا
والموزمبيق سنة 1976، وتدخل السوفيات مباشرة في أفغانستان سنة 1979. كما ساند الاتحاد
السوفييتي الحركة الساندينية الاشتراكية في نيكاراغوا، في الوقت الذي تدخل فيه الجيش
الأمريكي في جزيرة غرينادا 1983 لوضع حد للنظام الاشتراكي الذي أقامه النظام الكوبي
بها.
كما تميزت هذه المرحلة بالعودة إلى السباق نحو
التسلح بتطوير الأسلحة الاستراتيجية (استعمال
وسائط قادرة على توجيه القنابل نحو أهداف العدو) وبداية
برنامج حرب النجوم بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، ونشر أسلحة الليزر بالنسبة
للاتحاد السوفييتي، إضافة إلى تطوير الطرفين للصواريخ .
خاتمة:
لقد فرض نظام الثنائية القطبية على العالم طيلة
الفترة الممتدة بين 1945 و1985، عيش حالة اللاحرب واللاسلم. رافقتها عملية استنزاف للموارد الاقتصادية والطبيعية
للطرفين، لم يتمكن الاتحاد السوفييتي من الصمود أمامها، مما ساهم في انهياره، ليدخل
العالم مرحلة نظام القطب الواحد .
ذ. الحسين
أوبنلحسن: أستاذ مادة
الاجتماعيات.