تحليل النص المسرحي: الكنز لتوفيق الحكيم:
وضع النص في سياقه الأدبي والفني وصياغة فرضية لقراءته:
شهد الربع الثاني من القرن العشرين حركة دؤوبة
ومكثفة لتطوير فن المسرح وتجويده تأليفا وأداء. وقد تمثلت هذه الحركة في إنتاج
نصوص مسرحية ذات بناء درامي، قابلة للقراءة والعرض معا، والمزاوجة بين التأليف الدرامي
الغربي والمضامين الواقعية والتراثية. فكان أن شهد المسرح العربي نشاطا كبيرا نوع
أساليبه بين التأليف النثري والشعري، وعدد مواضيعه بين مواضيع اجتماعية ترصد
المشكلات الناجمة عن تغيرات المجتمع، ومواضيع سياسية كان هدفها تدعيم الروح
الوطنية ومواجهة الاستعمار. ولعل أبرز الرواد الفاعلين في النشاط المسرحي يوسف
وهبي، نجيب حداد، أمين الريحاني، محمد تيمور وتوفيق الحكيم، صاحب النص المعالج،
والذي أبدع أشكالا مسرحية شتى، تباينت بين
المسرح الذهني، السياسي، اللامعقول والاجتماعي.
- فما مضمون النص؟
- وكيف عالجه المؤلف فنيا؟
- وما رهانه من ذلك؟
صياغة فرضية لقراءة النص:
يحتمل عنوان النص معنيين، إذ يحيل على
مدلولين محتملين: كنز مادي ومعنوي. وهو بهذا المعنى لا يقدم معلومات كافية لافتراض
موضوع النص وطبيعته، لاعتماده على مكون معجمي واحد يحتمل أكثر من دلالة. وبالنظر
إلى بداية النص يمكن أن نلاحظ أنها لا تكاد ترجح أحد المعنيين على الآخر، وتجعل
القارئ مضطرا إلى الاحتكام إلى نهاية النص التي تبين طبيعة الكنز المشار إليه في
العنوان، إذ تسقط البعد المادي وتحتفظ بالدلالة المعنوية للكنز. وعلى هذا الأساس
يمكن أن نفترض أن النص مسرحي، يعرض قضية اجتماعية تتعلق بالقيم والمبادئ النبيلة،
التي تبرز قيمتها مقارنة بقيم أخرى قد يعرض لها النص.
المضمون:
تقوم أحداث المسرحية على مشاهد أربعة، تبدأ
بمشهد استهلالي يعرض حدث خطوبة ومواقف الأطراف المعنية به. فإذا كان الأب والأم
يسوغان خطبة ابنتهما درية بكون الخطيب ثريا، فإن درية ترفض الموضوع لاستبعادها
الوازع المادي في بناء سعادتها. يليه مشهد ثان يصور مفاجأة مراد لهذه الجلسة مدعيا
وجود كنز بالبيت، لينفرد في مشهد ثالث بدرية ليشرح لها حقيقة ادعائه والهدف من
ورائه، متسببا في عدول الأب عن اقتناعه بالخطيب الأول، ليختتم النص بمشهد أخير
يعلن فيه المعنيان الأساسيان ( مراد ودرية) حقيقة الكنز، وينجحان في استمالة رأي
الأم.
طبيعة المضمون:
يطرح النص موضوعا اجتماعيا يعاني منه المجتمع
المصري، والعربي عموما، يتمثل في حرص بعض الأسر على مصاهرة طبقة الأغنياء، وإن كان
ذلك على حساب سعادة ابنتها. إلا أن النص لا يقف عند حدود هدم هذه الصورة بل يعمد
إلى بناء صورة بديلة تقوم على المثل والأخلاق، وتعتبرها كنزا حقيقيا ومفتاحا
للسعادة.
الشخصيات:
وعلى هذا الأساس تتباين الذوات الفاعلة في
النص بتباين أبعادها النفسية والاجتماعية. فإذا كان الخطيب نموذجا للطبقة الغنية
التي لا تتحدث إلا لغة المال، وتعتبره وسيلة لتحقيق الغايات جميعها. فإن درية
ومراد يحيلان، في المقابل، على بعض الفئات المثالية التي تجعل من القيم المثلى
سبيلا لتحقيق أهدافها، والسعادة في مقدمتها. ويمكن أن نلمس نوعا من التناقض بين
مرجعيتي الأب والأم، يتمثل في كون الأول نموذجا للإنسان الجشع الذي لا يكترث إلا
لتحقيق الثروة مهما كان ثمنها، بينما الأم نموذج للمرأة الحريصة على سعادة
أبنائها.
البنية العاملية:
وتمييز الذوات الفاعلة
بهذا الشكل هو الذي جعل البنية العاملية في النص تتسم بالتنامي والتطور، وفق ثلاث
بنى أساسية يوضحها النموذج التالي:
الأنساق والقيم الفكرية:
ينطوي النص على نسق فكري يتمثل في الصراع بين
القيم المادية والمعنوية، قدمه المؤلف عبر توظيف ثنائيات تنتظم في إطارها الذوات
الفاعلة المتصارعة، تعبر عن رؤيتين متعارضتين: (الأب والخطيب) برؤيتهما المادية
السطحية، و( درية ومراد) برؤية عميقة وجوهرية مقابلة، يمكن من خلال حضورها
وتأثيرها في موضوع النص، أن نفهم أنها تعبر ضمنا عن صوت الكاتب. ولأن الموضوع،
بهذا المعنى تعبير عن تصورات ذاتية للواقع ولأسلوب الحياة، أمكن أن ندرج هذا النص
المسرحي ضمن الاتجاه الذهني من تجربة توفيق الحكيم في التأليف المسرحي.
الحوار:
ولأن النص تأليف مسرحي معد للعرض، فقد اعتمد
الحكيم على حوار خارجي، تباينت طبيعته وأشكاله بين الجدية والهزل، والتسلط
والتحايل، بتباين القوى الفاعلة ومرجعياتها الاجتماعية والثقافية. كما وظف،
باقتصاد كبير، بعض التعابير العامية، التي اقتصرت على تدخلات الخطيب – ربما
للإشارة إلى مستواه الثقافي – وعلى بعض تدخلات الأب، في إشارة إلى انتمائه الطبقي.
وتوزيع أشكال الأداء بهذا الشكل، يبين كيف أن الحكيم قد حرص على أن يعطي لكل شخصية
ما يناسبها من لغة، حسب ثقافتها ووضعها الاجتماعي، وأن يمكنها من أساليب حجاجية
تُغَلِّبُ رأيا على الآخر، تماشيا مع مقصديته من تأليف هذا النص المسرحي ( مراد
أكثر قدرة على الإقناع من الخطيب الأول).
المكان:
وبالوقوف عند بعض المؤشرات النصية الخاصة
بالمكان، نجد أن المؤلف وظف حيزا مكانيا ينسجم مع طبيعة الموضوع وأحداثه، هو
البيت. ولما كان هذا الأخير حقيقيا فإن ثمة أحيازا مكانية أخرى تقترن به وهي
الشرفة والشارع الذي رأى مراد درية منه. بيد أن الحيز الأكثر حضورا هو البيت وهو
فضاء مغلق يحتوي ويعكس الصراع بين القيم والمصالح والذوات الفاعلة.
الخطاطة السردية:
وتنتظم أحداث النص وفق خطاطة سردية محكمة، اعتمدت على الحبكة التقليدية واستوفت جميع مكوناتها، في بناء يمكن أن نمثله على النحو الآتي:
وضعية البداية |
العنصر المخل |
وضعية الوسط |
عنصر الانفراج |
وضعية النهاية |
تصور حدث
الخطوبة وتعرض تباين الرغبات |
رفض درية
الاقتران بالخطيب |
دخول مراد
مدعيا أن في البيت كنزا، وخروج الخطيب غاضبا |
اتفاق مراد
ودرية وإقناع الأب بطبيعة الكنز |
تأييد الأم
للطرفين واقتناعها بأهمية المثل العليا وقيمتها |
وقد اضطلعت هذه الخطاطة
بوظيفة جمالية تمثلت في توفير الشروط البنيوية التي تساعد المتلقي على فهم عالم
النص، وخرق أفق الانتظار لديه. ذلك أن المتلقي لم يكن يتوقع دخول مراد في اعتبار
تنامي الأحداث، خاصة وأن ما قد يتوقعه المتلقي، أن ينتهي النص بعدول درية عن رأيها
وتتزوج بالخطيب الثري. غير أن النهاية تكسر هذا الأفق وتعرض الموضوع للتعديل (
درية لم تتزوج بالخطيب الأول بل بمراد: فالموضوع بقي هو ذاته لكنه تعدل).
ورغم أن النص موجه بالأساس للقراءة، إلا أنه
استلهم بعض المقومات التي تجعله قابلا للعرض كذلك، كالإرشادات الدالة على المخرج (
مشهد يمثل...، الأم تخرج...) والممثل (لمراد...، بسخرية...، صارخا في نوبة
عصبية...) والديكور ( الحيطان والأركان والكراسي والمائدة...)، وتكمن أهمية هذه
الإرشادات في كونها تساعد القارئ على تمثل فضاء المسرحية والأحياز المكانية التي
تشهد أحداثها.
الخلاصة التركيبية:
اعتبارا لمستويات التحليل السابقة، يمكن أن
نستشف أن النص يندرج ضمن مسرح المجتمع. وقد مرر الحكيم من خلاله مقصدية تتمثل في
إثارة الانتباه إلى هيمنة النزعة المادية لدى البعض على حساب القيم والمثل مما
يهدد بتداعي هذه الأخيرة وتلاشيها. وهي قضية إنسانية تتعلق بها قيم اجتماعية
ونفسية وثقافية. وقد عالج الكاتب الموضوع في قالب مسرحي طبعه التشويق والإثارة،
استوفى أغلب مقومات التأليف المسرحي وخصائصه، كالمعايشة والهدف الأعلى، إلى جانب
سمات فنية أخرى كالحوار والإرشادات وترابط مكونات البنية العاملية، وكل هذه
الخصائص تؤكد صحة ما سبق وافترضناه في مقدمة التحليل.
د . عمر عودى: مناهج قراءة النصوص الأدبية للسنة الثانية من سلك البكالوريا مسلك الآداب والعلوم الإنسانية. 2014. الصفحة 133 وما بعدها (بتصرف).